الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»
.تفسير الآية رقم (237): {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}{وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} لما ذكر حكم المفوضة أتبعه حكم قسيمها. {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي فلهن، أو فالواجب نصف ما فرضتم لهن، وهو دليل على أن الجناح المنفي ثم تبعه المهر وأن لا متعة مع التشطير لأنه قسيمها {إَّلا أَن يَعْفُونَ} أي المطلقات فلا يأخذن شيئاً، والصيغة تحتمل التذكير والتأنيث، والفرق في الأول أن الواو ضمير والنون علامة الرفع والثاني لام الفعل والنون ضمير والفعل مبني ولذلك لم يؤثر فيه أن هاهنا ونصب المعطوف عليه. {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} أي الزوج المالك لعقده وحله عما يعود إليه بالتشطير فيسوق المهر إليها كاملاً، وهو مشعر بأن الطلاق قبل المسيس مخير للزوج غير مشطر بنفسه، وإليه ذهب بعض أصحابنا والحنفية. وقيل الولي الذي يلي عقد نكاحهن وذلك إذا كانت المرأة صغيرة، وهو قول قديم للشافعي رحمه الله تعالى. {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} يؤيد الوجه الأول وعفو الزوج على وجه التخيير ظاهر وعلى الوجه الآخر عبارة عن الزيادة على الحق، وتسميتها عفواً إما على المشالكة وإما لأنهم يسوقون المهر إلى النساء عند التزوج، فمن طلق قبل المسيس استحق استرداد النصف فإذا لم يسترده فقد عفا عنه. وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال أنا أحق بالعفو. {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض. {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يضيع تفضلكم وإحسانكم..تفسير الآية رقم (238): {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}{حافظوا عَلَى الصلوات} بالأداء لوقتها والمداومة عليها، ولعل الأمر بها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها. {وَالصَّلاةِ الوُسْطَى} أي الوسطى بينها، أو الفضلى منها خصوصاً وهي صلاة العصر لقوله عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم ناراً» وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها، واجتماع الملائكة. وقيل صلاة الظهر لأنها في وسط النهار وكانت أشق الصلوات عليهم فكانت أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل العبادات أحمزها» وقيل صلاة الفجر لأنها بين صلاتي النهار والليل والواقعة في الحد المشترك بينهما ولأنها مشهودة. وقيل المغرب لأنها المتوسطة بالعدد ووتر النهار. وقيل العشاء لأنها بين جهريتين واقعتين طرفي الليل. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ: «والصلاة الوسطى صلاة العصر» فتكون صلاة من الأربع خصت بالذكر مع العصر لانفرادهما بالفضل. وقرئ بالنصب على الاختصاص والمدح. {وَقُومُواْ لِلَّهِ} في الصلاة. {قانتين} ذاكرين له في القيام، والقنوت الذكر فيه. وقيل خاشعين، وقال ابن المسيب المراد به القنوت في الصبح..تفسير الآية رقم (239): {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)}{فَإِنْ خِفْتُمْ} من عدو أو غيره. {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} فصلوا راجلين أو راكبين ورجالاً جمع راجل أو رجل بمعناه كقائم وقيام، وفيه دليل على وجوب الصلاة حال المسايفة وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يصلى حال المشي والمسايفة ما لم يكن الوقوف. {فَإِذَا أَمِنتُمْ} وزال خوفكم. {فاذكروا الله} صلوا صلاة الأمن أو اشكروه على الأمن {كَمَا عَلَّمَكُم} ذكراً مثل ما علمكم من الشرائع وكيفية الصلاة حالتي الخوف والأمن. أو شكراً يوازيه وما مصدرية أو موصولة. {مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} مفعول علمكم..تفسير الآية رقم (240): {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)}{والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم} قرأها بالنصب أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم على تقدير والذين يتوفون منكم يوصون وصية، أو ليوصوا وصية، أو كتب الله عليهم وصية، أو ألزم الذين يتوفون وصية. ويؤيد ذلك قراءة كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعاً إلى الحول مكانه. وقرأ الباقون بالرفع على تقدير ووصية الذين يتوفون، أو وحكمهم وصية، أو والذين يتوفون أهل وصية، أو كتب عليهم وصية، أو عليهم وصية وقرئ: {متاع} بدلها. {متاعا إِلَى الحول} نصب بيوصون إن أضمرت وإلا فبالوصية وبمتاع على قراءة من قرأ لأنه بمعنى التمتيع. {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} بدل منه، أو مصدر مؤكد كقولك هذا القول غير ما تقول، أو حال من أزواجهم أي غير مخرجات، والمعنى: أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولاً بالسكنى والنفقة، وكان ذلك في أول الإِسلام ثم نسخت المدة بقوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وهو وإن كان متقدماً في التلاوة فهو متأخر في النزول، وسقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن، والسكنى لها بعد ثابتة عندنا خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله. {فَإِنْ خَرَجْنَ} عن منزل الأزواج. {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها الأئمة. {فِيمَا فَعَلْنَ في أَنفُسِهِنَّ} كالتطيب وترك الإِحداد. {مِن مَّعْرُوفٍ} مما لم ينكره الشرع، وهذا يدل على أنه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وإنما كانت مخيرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها. {والله عَزِيزٌ} ينتقم ممن خالفه منهم. {حَكِيمٌ} يراعي مصالحهم..تفسير الآيات (241- 242): {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}{وللمطلقات متاع بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين} أثبت المتعة للمطلقات جميعاً بعدما أوجبها لواحدة منهن، وإفراد بعض العام بالحكم لا يخصصه إلا إذا جوزنا تخصيص المنطوق بالمفهوم ولذلك أوجبها ابن جبير لكل مطلقة، وأول غيره بما يعم التمتيع الواجب والمستحب. وقال قوم المراد بالمتاع نفقة العدة، ويجوز أن تكون اللام للعهد والتكرير للتأكيد أو لتكرر القضية {كذلك} إشارة إلى ما سبق من أحكام الطلاق والعدة. {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} وعد بأنه سيبين لعباده من الدلائل والأحكام ما يحتاجون إليه معاشاً ومعاداً. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لعلكم تفهمونها فتستعملون العقل فيها..تفسير الآية رقم (243): {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)}{أَلَمْ تَرَ} تعجيب وتقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ، وقد يخاطب به من لم ير ومن لم يسمع فإنه صار مثلاً في التعجب. {إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} يريد أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيها طاعون فخرجوا هاربين، فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله تعالى وقدره. أو قوماً من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد ففروا حذر الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم. {وَهُمْ أُلُوفٌ} أي ألوف كثيرة. قيل عشرة. وقيل ثلاثون. وقيل سبعون وقيل متألفون جمع إلف أو آلف كقاعد وقعود والواو للحال. {حَذَرَ الموت} مفعول له. {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ} أي قال لهم موتوا فماتوا كقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} والمعنى أنهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علة، بأمر الله تعالى ومشيئته. وقيل ناداهم به ملك وإنما أسند إلى الله تعالى تخويفاً وتهويلاً. {ثُمَّ أحياهم} قيل مر حزقيل عليه السلام على أهل داوردان وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم، فتعجب من ذلك فأوحى الله تعالى إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن الله تعالى، فنادى فقاموا يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إِلا أنت. وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وحثهم على التوكل والاستسلام للقضاء. {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} حيث أحياهم ليعتبروا ويفوزوا وقص عليهم حالهم ليستبصروا {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرونه كما ينبغي، ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبار والاستبصار..تفسير الآية رقم (244): {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)}{وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} لما بين أن الفرار من الموت غير مخلص منه وأن المقدر لا محالة واقع، أمرهم بالقتال إذ لو جاء أجلهم في سبيل الله وإِلا فالنصر والثواب. {واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ} لما يقوله المتخلف والسابق. {عَلِيمٌ} بما يضمرانه وهو من وراء الجزاء..تفسير الآية رقم (245): {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله} {مِنْ} استفهامية مرفوعة الموضع بالابتداء، و{ذَا} خبره، و{الذي} صفة ذا أو بدله، وإقراض الله سبحانه وتعالى مثل لتقديم العمل الذي به يطلب ثوابه. {قَرْضًا حَسَنًا} إقراضاً حسناً مقروناً بالإخلاص وطيب النفس أو مقرضاً حلالاً طيباً. وقيل: القرض الحسن بالمجاهدة والإِنفاق في سبيل الله {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} فيضاعف جزاءه، أخرجه على صورة المغالبة للمبالغة، وقرأ عاصم بالنصب على جواب الاستفهام حملاً على المعنى، فإن {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله} في معنى أيقرض الله أحد. وقرأ ابن كثير {فيضعفه} بالرفع والتشديد وابن عامر ويعقوب بالنصب. {أَضْعَافًا كَثِيرَةً} كثرة لا يقدرها إلا الله سبحانه وتعالى. وقيل الواحد بسبعمائة، و{أضعافاً} جمع ضعف ونصبه على الحال من الضمير المنصوب، أو المفعول الثاني لتضمن المضاعفة معنى التصيير أو المصدر على أن الضعف اسم مصدر وجمعه للتنويع. {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} يقتر على بعض ويوسع على بعض حسب ما اقتضت حكمته، فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم كيلا يبدل حالكم. وقرأ نافع والكسائي والبزي وأبو بكر بالصاد ومثله في الأعراف في قوله تعالى: {وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَسْطَةً} {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم على حسب ما قدمتم..تفسير الآية رقم (246): {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}{أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بَنِى إِسْرءيلَ} {الملا} جماعة يجتمعون للتشاور، ولا واحد له كالقوم ومن للتبعيض. {مِن بَعْدِ موسى} أي من بعد وفاته ومن للابتداء. {إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ} هو يوشع، أو شمعون، أو شمويل عليهم السلام. {ابعث لَنَا مَلِكًا نقاتل فِي سَبِيلِ الله} أقم لنا أميراً ننهض معه للقتال يدبر أمره ونصدر فيه عن رأيه، وجزم نقاتل على الجواب. وقرئ بالرفع على أنه حال أي أبعثه لنا مقدرين القتال، ويقاتل بالياء مجزوماً ومرفوعاً على الجواب والوصف لملكا. {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تقاتلوا} فصل بين عسى وخبره بالشرط، والمعنى أتوقع جبنكم عن القتال إن كتب عليكم، فأدخل هل على فعل التوقع مستفهماً عما هو المتوقع عنده تقريراً وتثبيتاً. وقرأ نافع {عَسَيْتُمْ} بكسر السين. {قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل في سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا} أيْ أيُّ غرض لنا في ترك القتال وقد عرض لنا ما يوجبه ويحث عليه من الإخراج عن الأوطان والإفراد عن الأولاد، وذلك أن جالوت ومن معه من العمالقة كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين، فظهروا على بني إسرائيل فأخذوا ديارهم وسبوا أولادهم وأسروا من أبناء الملوك أربعمائة وأربعين. {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ} ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد أهل بدر {والله عَلِيمٌ بالظالمين} وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد..تفسير الآيات (247- 248): {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} طالوت علم عبري كداود وجعله فعلوتاً من الطول تعسف يدفعه منع صرفه، روي أن نبيهم صلى الله عليه وسلم لما دعا الله أن يملكهم أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت {قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} من أين يكون له ذلك ويستأهل. {وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ المال} والحال أنا أحق بالملك منه وراثة ومكنة وإنه فقير لا مال له يعتضد به، وإنما قالوا ذلك لأن طالوت كان فقيراً رَاعياً أو سقاء أو دباغاً من أولاد بنيامين ولم تكن فيهم النبوة والملك، وإنما كانت النبوة في أولاد لاوى بن يعقوب والملك في أولاد يهوذا وكان فيهم من السبطين خلق. {قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء والله واسع عَلِيمٌ} لما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه رد عليهم ذلك. أولاً بأن العمدة فيه اصطفاه الله سبحانه وتعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم، وثانياً بأن الشرط فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية، وجسامة البدن ليكون أعظم خطراً في القلوب، وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب، لا ما ذكرتم. وقد زاده الله فيهما وكان الرجل القائم يمد يده فينال رأسه، وثالثاً بأن الله تعالى مالك الملك على الإطلاق فله أن يؤتيه من يشاء، ورابعاً أنه واسع الفضل يوسع على الفقير ويغنيه عليم بمن يليق بالملك من النسيب وغيره. {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ} لما طلبوا منه حجة على أنه سبحانه وتعالى اصطفى طالوت وملكه عليهم. {إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} الصندوق فعلوت من التوب، وهو الرجوع فإنه لا يزال يرجع إلى ما يخرج منه، وليس بفاعول لقلة نحو سلس وقلق، ومن قرأه بالهاء فلعله أبدله منه كما أبدل من تاء التأنيث لاشتراكهما في الهمس والزيادة، ويريد به صندوق التوراة وكان من خشب الشمشاد مموهاً بالذهب نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين. {فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ} الضمير للإِتيان أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة، أو للتابوت أي مودع فيه ما تسكنون إليه وهو التوراة. وكان موسى عليه الصلاة والسلام إِذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون. وقيل صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يتبعونه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر. وقيل صورة الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام. وقيل التابوت هو القلب والسكينة ما فيه من العلم والإخلاص وإتيانه مصير قلبه مقراً للعلم والوقار بعد أن لم يكن.{وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءَالُ موسى وَءَالُ هارون} رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وعمامة هرون، وآلْهما أبناؤهما أو أنفسهما. والآل مقحم لتفخيم شأنهما، أو أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمهما. {تَحْمِلُهُ الملائكة} قيل رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه وقيل كان بعده مع أنبيائهم يستفتحون به حتى أفسدوا فغلبهم الكفار عليه، وكان في أرض جالوت إلى أن ملك الله طالوت فأصابهم بلاء حتى هلكت خمس مدائن فتشاءموا بالتابوت فوضعوه على ثورين فساقتهما الملائكة إلى طالوت. {إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يحتمل أن يكون من تمام كلام النبي عليه الصلاة والسلام وأن يكون ابتداء خطاب من الله سبحانه وتعالى.
|